"بؤونة قلبه حجر"
قالتها وتركت الشيش نصف مغلق.
جدتى ... لا تحب المطر .
وهى صغيرة سمعت شائعة ، وصدقتها .
أن المطر حين سقط أول مرة منذ زمن بعيد يقترب من عمرها نحت فى وجهها خطوط رفيعة ، أخذت تغور مع الوقت ،لتطبع وجهها بذلك السمت المميز للحزن ،
كانت دائماً تقول أن وجهها يشبه شتاء حزين !
أما بالنسبة لى كان وجهها كوجه عجائز الحارة كلهم ، يذكرنى – بلونه البنى الغامق – بصيف هادئ .
لم يكن يتحدثن عن المطر قط ، لكن هذا العام فى أمسياتهن الطويلة التى ألهبها حر بؤونة أمام البيوت تبادلن الحديث الخافت عنه فى سرية كتبادلهن أنصاف السجائر فيما بينهن بعيداً عن الآذان والعيون.
لم يكن هذا موعد أى نوة ، لذلك بدت أحاديثهم عن النوة التى تأتى كل مائة عام بالنسبة لى كهذيان محموم عن أحدى خرافتهم التى لا تنتهى ، لكن هذه المرة بدت كأنها قدر محتوم .
فجأة انتهت الأحاديث حين بدأ المطر .
أول الأمر تفائل الناس بالمطر الذى لم يكن هذا موعده ، وحين علت المياه وأغرقت بيوت العاهرات القريبة من الميناء ، ظنوا أنها أتت لتطهرنا من دنس نفوسنا الآثمة، وحزنت انا لأنى لن أرى بيوت البحر بشرفاتها الواسعة ونسائها الحزانى .
لكن عندما أقترب الشهر الثالث من نهايته ولم يتوقف المطر ، لم يبد ان هناك نهاية له .
فى الشوارع ، كانت قطع الأثاث وجثث الأطفال الطافية والمراكب الصغيرة التى جرفها الماء من الميناء القريب هى كل ما يشغل نهر الطريق . الترام الأصفر الذى كان يمر من الشارع الكبير ، أختفى وقيل أنه غرق. لم يبق من أهل الحارة غير العيون المترصدة للمجهول خلف نوافذ الخشب المتعفن والحيطان التى غطتها طحالب البحر.
وفى الصباحات الغائمة - عندما يكون المطر أخف – تخرج خيالات النساء المتسربلات بالسواد
تعبر الماء ، تصل لحدود الجبل العالى حيث الضريح .
تخرج كل منهن من طياتها ، شموع بلون ملابسهن ، وأرغفة خبز مبتلة ، وتضرع خافت ، ودموع مخبأة فى المطر .
يضعنها عند شباك "الولى" ويرحلن بخوف من إجهاض الأمل .
وفى يوم ما بعد ستة أشهر من بداية المطر ، فتحت جدتى النافذة نصف المغلقة ، شمت رائحة الهواء ، مدت يدها المرتعشة للخارج ،
ولأول مرة توقف المطر.
جفت مياه الشوارع لتترك طبقة ملح رقيقة فوق الأرض .
حيطان الحارة ذات الطلاء الأصفر الجيرى ، أكتست بلون بنى غامق ، كلون وجوه الجدات الحزينة .
لم يبد أن أى منا لا حظ التغيير ، و لا ندرى متى ظهرت بالضبط الشجيرات الصغيرة التى نمت داخل الحيطان ، وعندما رأيناها بدت لنا – إلى حد ما - مألوفة كأنها هناك منذ الأزل ، فقط لم نكن نراها بوضوح .
كانت تبدو كرسوم دقيقة متقنة من سيقان وورق ، عندما نلمسها تجد الملمس الخشن المعتاد لحيطان حارتنا الرطبة ،إلا اننا حين نجلس أسفل منها لم تكن تجرؤ الشمس على المساس بنا داخل ظلها الممدود على الأرض .
ناس الحارة الذين عاشروا الجان والسحرة وتحدثوا إلى أشباح السفن الغارقة وقفوا مشدوهين أمام الثمار البرتقالية التى نمت من أغصان شجر الحيطان .
الأطفال - الذين كانوا أكثر جرأة – هم أول من قطف الثمار.
الناس الذين جوعتهم النوة أنطلقوا يجمعوا من البرتقال ما أستطاعوا ، وضعوا بعضه تحت شباك ضريح " الولى " والباقى لم يبق منه عند الليل شئ .
فى الصباح عادت الأشجار مثمرة كما كانت بالأمس ، كأن لم يأخذوا منها شيئاً.
قال البعض أن هذا جزاء صبرنا على البلاء ، وقال الآخرون أن هذا أختبار آخر من الله .
أما جدتى حين سألتها لم تجب بشئ.
فقط أغلقت نافذتها إلى الأبد.
أنتشر خبر الثمار الغريبة فى الحارات حولنا وانطلق الناس لينشروا بألسنتهم ما لم تصدقه العيون.
أتى إلى الحارة أناس لا يشبهوننا من بلاد لا نعلمها ، فقط ليروا حوائطنا المثمرة .
أصبح للحارة مريدين وأتباع وأقاموا فى العراء تحت ظل البرتقال.
مد كل واحد منطقة نفوذ فوق حيطان بيته ،
فى كل صباح قبل أن يسير الضوء على أرض الحارة ، يجمع أصحاب البيوت الثمار التى نضجت منذ قليل ، بسرعة ، ويغلقون الأبواب .
وبقى من لا بيت له محروماً حتى من الظل الذى كان يجلس فيه.
حاول بعض منهم أن يبنى بيتاً فى أطراف الحارة ملتصق بالبيوت الأخرى ، لكن الجدران الجديدة خرجت لها ألوان أخرى باهتة غير لون حيطان النوة .
ولم تثمر.
كانوا يترقبون ظهور الثمرات الصغيرة ربما استطاعوا أن يسرقوها ، لكنها لم تكن تخرج حتى الفجر وعند استيقاظهم صباحاً لا يجدوها .
تعجبوا متى يجنيها أصحاب البيوت ، وتذكروا أنهم لم يروهم منذ شهور أيضاً .
جاء بؤونة جديد ، ولم يحمل معه نوة جديدة ،فقط القيظ الشديد المعتاد .
وفكر أولائك الآخرون الذين أعتادوا فقط النظر إلى الأشجار الممتدة بطول الحار ، أنه إذا لم يعطهم الرب مثل تلك الحيطان فذلك لأنهم أناس يعرفون الله حق معرفته ، ولا حاجة لهم فى لعنة زائلة كى يتقربوا منه أكثر.
وبعد قليل قرروا إزالة اللعنة .
وعندما أتى ليل ، خرجوا على البيوت وهدموها فوق رؤوس أصحابها الذين لم يخرج منهم صوت او أستغاثة .
ومع أول ضوء بحثوا داخل أحجار الجير وبين أنقاض البيوت ،ولم إلا قشور برتقال وسط جثث متعفنة ، تركتها أرواحها منذ زمن .
جائت شمس النهار قاسية ، مصرة على حرق كل شئ ، تسعى نحو رؤوس الذين جلسوا على الأطلال بين أشباح الموت ، ينتظرون لعنتهم المفقودة ،
فى شهر بؤونة ينتهى .
تمت.
ReplyDeletethx
كشف تسربات المياة
غسيل خزانات
شركة نظافة عامة